اللطف..
حين يمارس الإنسان اللطف سلوكاً له يسمو على الصغائر، ويرتفع على الهموم، ويستقبل واقعه بكل السعادة؛ ويتعامل مع جميع الكائنات والمخلوقات من حوله بالرحمة واللين، فتملأ نفسه طاقة إيجابية خلاقة، ويشعر بعظمة وجوده بالحياة.
ومن قصص اللطف في حياتي ذلك الموقف الذي مررت به في ليلة شديدة البرودة في قرية نائية في إحدى قرى مصر بمحافظة كفر الشيخ؛ عندما سمعت عواء كلب صغير يأتي من بيت مهجور في الشارع المقبل لمنزلي الريفي.. كان عواءً يدمي القلب، ويملأ النفس أسى، لكن الوقت متأخر، والبرد شديد على نحو جعلني أتريث قليلاً قبل أن أبادر إلى اتخاذ القرار.
لكن شعورا باللطف تسرب إلى نفسي وأنا أتساءل عن سبب عواء ذلك الكلب في ذلك الوقت المتأخر من الليل.. رحت أطرح الأسئلة تلو الأسئلة هل هو كلب جائع؟ أم أن الظمأ يقطعه؟ أم أنه حبيس في هذا المنزل المهجور؟
كان طفلي الصغير هو الآخر مهموم بهذا الصوت الذي يشرخ جدار السكون من حولنا.. قمت من فراشي وأشعلت الضوء الخارجي المقابل لهذا المكان المهجور، وكانت المفاجأة أن هدأ الكلب للحظات وكأنه شعر بأمان يفتقده في وحدته تلك..
حمدت الله على ذلك، ثم عدت إلى مكاني، وما هي إلا لحظات حتى انبعث صوته عوائه مجدداً، انبعث الصوت لكنه هذه المرة يدمي القلب أكثر وأكثر، ويجرح الروح دون رحمة، ووجدت طفلي الصغير صاحب السنوات الثماني يشاركني بقوة الرغبة في مساعدة الكلب الصغير.. ثم طلب مني أن نخرج معا لمساعدته على الرغم من برودة الجو، وحشة المكان.
أحضرت كسرات من الخبز، وملأت زجاجة كاملة بالماء، وأحضرت وعاء فارغا فلربما أحتاج إليه لتقديم الطعام، ثم أشعلت ضوء مصباح الهاتف، وخرجت بصحبة صغيري من بوابة منزلي ونحن نتحسس الطريق، ثم إلى باب الحديقة، ثم إلى الشارع الجانبي باتجاه البيت المهجور.. دخلنا بحذر، ثم أمسكت بيد صغيري وبعثت فيه الثقة وذكرته بأننا نعمل عملاً مهماً، ونحن نقترب شيئا فشيئا في هذا الظلام الحالك الذي يشقه ضوء المصباح من عواء الكلب الذي لم يتوقف للحظة.
وكانت المفاجأة؛ وجدت الكلب محبوسا في حفرة مظلمة في آخر البيت المهجور، ولا يمكنه بحال من الأحوال الخروج منها، كما لا يمكنه البقاء في هذا الظلام الحالك، والمدهش أنه كان جروا صغيرا لا يتجاوز عمره كما بدا لي نحو بضعة أشهر، كان شديد السواد، يرفع رأسه باحثا عمن جاء إليه في هذا الوقت المتأخر من الليل.
وما إن رآنا حتى هدأت نفسه، وخف عواؤه.. كانت الحفرة التي سقط فيها يتجاوز ارتفاعها المتر والنصف: مددت يدي بهدوء وحذر لأضع الوعاء البلاستيكي في أسفل الحفرة التي شقها ضوء المصباح، ثم سكبت فيها زجاجة الماء كاملة، وألقيت من حولها بفتات الخبز، فانقض الجرو الصغير على الماء يعب منه عبا، وكان أحمد الصغير يسلط الضوء عليه، حتى ِارتوى ثم أمسك بكسرات الخبز وراح يلتهمها في فرح شديد..
ثم مكست إلى جواره أنا وأحمد على لمدة ساعة تقريبا ونحن نوفر له الضوء ليشرب ويأكل في أمان .. وكانت تلك اللحظات من اللحظات الغامرة بالسعادة، المفرحة لي ولصغيري أحمد ونحن نرى هذا الكائن الضعيف وهو يحرك ذيله رضا وسعادة بكسرات الخبز والماء الذي راح يشرب منه حد الارتواء.
عبد المنعم القاضي ـ مصر